في السنوات الأخيرة، تصاعدت في الولايات المتحدة أصوات جديدة ولكنها قوية، تتحدى واحدة من أكثر أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية رسوخًا كالدعم المالي والعسكري غير المشروط لـ«إسرائيل»، فلم تعد القضية فقط سياسية أو إنسانية، بل أصبحت اليوم تمس جيب المواطن الأمريكي بشكل مباشر، بعد أن بدأ كثيرون يسألون السؤال الجوهري: لماذا تُستخدم أموال ضرائبنا لدعم دولة أجنبية بينما نواجه نحن أزمات داخلية متفاقمة؟
هذا التحول المفاهيمي لم يكن عابرًا أو هامشيًا، بل أصبح جزءًا من الخطاب السياسي والإعلامي والاحتجاجي الأمريكي، يفرض نفسه على النقاشات في الكونغرس، والحوارات بين النشطاء، والنشرات الجامعية، بل وحتى على منصات التواصل الاجتماعي، والسؤال حول أحقية استخدام الأموال العامة لدعم «إسرائيل» لم يعد مجرد اعتراض من أقليات سياسية، بل أصبح علامة فارقة على بداية تصدّع في الإجماع التقليدي حول العلاقة الأمريكية – «الإسرائيلية».
عمق العلاقة الأمريكية – «الإسرائيلية»
منذ تأسيس دولة الاحتلال في عام 1948م، كانت الولايات المتحدة الحليف الأكبر لها، فقد قدّمت لها عبر العقود دعمًا غير مشروط، شمل المساعدات العسكرية والمالية والدبلوماسية، ووفقًا لتقارير رسمية، فإن الولايات المتحدة قدّمت لـ«إسرائيل» منذ تأسيسها أكثر من 150 مليار دولار كمساعدات معظمها مساعدات عسكرية.
دوماً ما تبّرر واشنطن هذا الدعم المستمر بعدة اعتبارات، منها الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لـ«إسرائيل»، وضمان أمن الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فضلًا عن نفوذ اللوبي «الإسرائيلي» القوي في السياسة الأمريكية، مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية «الإسرائيلية» (AIPAC).
أموال الضرائب الأمريكية.. إلى أين؟
وفقًا للأرقام الرسمية، تُمنح «إسرائيل» مساعدات سنوية تبلغ حوالي 3.8 مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين بموجب اتفاقية تمتد على 10 سنوات، وهذه الأموال تُخصص بالكامل تقريبًا كمساعدات عسكرية مباشرة، تشمل الأسلحة والصواريخ والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي.
لكن في كل مرة تُصرف فيها هذه الأموال يكون مصدرها جيب المواطن الأمريكي، فأموال الدعم لا تأتي من تبرعات خاصة أو شركات تسليح، بل من الميزانية العامة التي يمولها كل مواطن من خلال ضرائبه، سواء كان عاملًا بسيطًا أو صاحب شركة أو موظفًا في قطاع التعليم أو الصحة، في وقتٍ تواجه فيه الولايات المتحدة أزمات داخلية حادة كأزمة الإسكان والتشرد وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وضعف البنية التحتية في بعض الولايات، وتدني الأجور مقارنة بارتفاع الأسعار، إضافة الى ديون التعليم المتراكمة على ملايين الطلاب.
لذا، يبدأ المواطن الأمريكي العادي في التساؤل عن المنطق الأخلاقي والاقتصادي في تمويل دولة أجنبية متقدمة اقتصاديًا مثل «إسرائيل» على حساب احتياجاته اليومية.
التحول الشعبي.. من الصمت إلى الاعتراض
في العقود السابقة، كان الدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» يُمرر دون مقاومة تُذكر من الرأي العام، لكن هذا الواقع تغير بشدة، وخصوصًا بعد التصعيدات الأخيرة في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، واستخدام السلاح الأمريكي في العمليات العسكرية «الإسرائيلية»، إلا أن العديد من المواطنين الأمريكيين عبروا عن احتجاجاتهم في المظاهرات أو عبر منشوراتهم على «السوشيال ميديا»، كشعارات صريحة: Not with our taxes، Stop funding war crimes، Fix our schools, not Israel’s army،Healthcare not warfare.
هذه الشعارات لم تعد محصورة في دوائر اليسار أو النشطاء، بل انتشرت بين شريحة واسعة من الأمريكيين، خصوصًا من الجيل الشاب والطبقات المتوسطة التي ترزح تحت ضغط اقتصادي متزايد.
الأصوات السياسية التي تقود هذه الموجة
في السنوات الأخيرة، ظهرت شخصيات سياسية أمريكية بارزة بدأت تضع علنًا قضية الضرائب والدعم لـ«إسرائيل» على طاولة النقاش الوطني من أبرزهم برني ساندرز، رغم كونه يهوديًا، فإنه عبّر مرارًا عن رفضه أن تُستخدم أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في تمويل عمليات عسكرية «إسرائيلية» دون شروط.
وكذلك رشيدة طليب، وإلهان عمر، اللتان طالبتا بوضوح بوقف المساعدات غير المشروطة لـ«إسرائيل»، وضرورة توجيه هذه الأموال لخدمة الأمريكيين أنفسهم، وكذلك ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، قالت في أكثر من مناسبة: إن الأمريكيين لا يريدون أن تُستخدم ضرائبهم لتمويل احتلال أو حصار، وطالبت بربط أي دعم مالي باحترام حقوق الإنسان.
الجامعات والمجتمع المدني.. الضرائب قضية عدالة
في الحركات الطلابية، أخذت قضية الضرائب موقعًا مركزيًا في المطالبات المناهضة للدعم الأمريكي لـ«إسرائيل»، فالطلاب يرون أن مليارات الدولارات التي تُصرف على الدعم العسكري الخارجي كان يمكن استخدامها في خفض تكاليف التعليم أو تحسين الخدمات الجامعية، أما منظمات المجتمع المدني، فقد بدأت تطلق حملات واضحة مثل: Tax the war, not the poor، Where’s my refund if it funds occupation?
وهي حملات تسعى لإعادة تشكيل الوعي العام تجاه الدور المالي للولايات المتحدة في دعم الصراعات الدولية، لا سيما حين يكون ذلك على حساب حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية.
الخطر على السياسة الخارجية الأمريكية
هذه الموجة المتصاعدة من الاعتراض على إرسال أموال الضرائب إلى «إسرائيل» تمثل تهديدًا صامتًا ولكنه متنامٍ للسياسة الخارجية الأمريكية، وذلك على عدة مستويات؛ مثل فقدان الدعم الشعبي، فلا يمكن لأي سياسة خارجية أن تصمد طويلاً إذا ما تعارضت مع المزاج العام الداخلي، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بالمال العام.
كذلك تآكل الإجماع الحزبي، فبينما لا تزال بعض دوائر الحزب الجمهوري متمسكة بالدعم غير المشروط لـ«إسرائيل»، يتعرض الحزب الديمقراطي لضغط داخلي متزايد من قاعدته الشبابية والليبرالية، لذا فقد أصبحت قضية التمويل لـ«إسرائيل» موضوعًا يؤثر في قرارات الناخبين، خصوصًا في الدوائر التقدمية؛ ما يدفع الساسة إلى إعادة التفكير بمواقفهم المعلنة.
إنّ الأصوات المتصاعدة في المجتمع الأمريكي ضد استخدام أموال الضرائب لدعم «إسرائيل» تمثل تحولًا عميقًا في الوعي السياسي، وتحديًا غير مسبوق لصناع القرار في واشنطن، هذا التحول قد لا يؤدي إلى تغيير فوري في السياسة الخارجية الأمريكية، لكنه بالتأكيد يضع الأسس لتغييرات مستقبلية كبيرة، ويعكس انتقال أمريكا من مرحلة الدعم غير المشروط إلى مرحلة إعادة الحسابات.
في نهاية المطاف، إن استجابة الإدارة الأمريكية لهذه التحولات ستحدد إلى حد بعيد مستقبل علاقتها مع الشرق الأوسط، ومصداقيتها كدولة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية.
لذا، فان القضية لم تعد مجرد اعتراض على دعم «إسرائيل» بحد ذاته، بل أصبحت جزءًا من سؤال أخلاقي أكبر حول كيفية استخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، هذا التحول يعبّر عن إرادة شعبية جديدة تطالب بالشفافية، والعدالة في الإنفاق العام، وربط السياسة الخارجية بالقيم الإنسانية، وليس فقط بالمصالح الجيوسياسية.
قد لا يتغير شيء في المدى القريب، لكن من المؤكد أن صوت «لا لأموال ضرائبنا لإسرائيل» أصبح أكثر صخبًا ونفوذًا، ويشير إلى أن الولايات المتحدة تدخل مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح سياساتها الخارجية، من منطلق داخلي بحت.
د. أمجد بشكار